حكمات الياس دكور (أبو مُشيل) وزوجته مريم من فسوطة يعيشان كل يوم ذكريات دير القاسي المهجرّة
لأهالي فسوطة ذكريات وقصص تذكرهم بحياة الناس وعلاقاتهم قبل النكبة مع القرية الجارة دير القاسي، هذه القرية التي تقع على مرمى حجر من فسوطة، هُجِّرَ أهلها في العام 1948 وبقيت أحداثها غصّة في حلوق مواطنيها وجيرانهم في فسوطة والقرى المجاورة.
وفي قرية فسوطة التقيتُ مع حكمات الياس دكور أبو مشيل 78 عاماً وزوجته مريم دكور أم مشيل 74 عاماً.
الأُنباشي موسى طلع جاسوس
سألت أبو مشيل شو أكثر إشي بذكرك بهذيك الأيامات؟ قال: كان عندي بارودة إنكليزية إشتريتها بعشرين ليرة فلسطينية نُصّ بنُص مع عمي جريس دكور... محمود لِبراهيم من دير القاسي كان من قيادة الثوار وقائد فصيل المنطقة، وكان عنا نقطة لجيش الانقاذ فيها شاويش وجنود ومسؤوليين.
ومرّه كنت بدوريِّة حراسة غربي البلد، في وقتها كانت الحراسة بالدور وكل إثنين سوى ... طيّب ... بالليل سمعت الشاويس عبد الله والأُنباشي موسى من اليمن، كانو هذول من جيش الانقاذ، طالعين كالخيل ويرودحو ... قررت أخوّفهن ... صيّحت وقلت : إسمع وُلًكْ ... وصوبت عليهن السلاح وطخّيت.. قالو : هي هي هي ... إحنا من جيش الإنقاذ، حْمِلْت حالي وروَّحت، قاموا مسكوا شريكي في الحراسة وقشّطوه البارودِه وضربوه، أجا خليل نجار وكمال العاصي وفوزي موسى اللي كانوا مسؤولين على تقسيم الحراسة في البلد وقالوا للشاويش وللأنباشي: شو مالكوا الحُرّاس فَكَّروكوا يهود وطَخوا عليكو ... قالوا: لكان براو عليهن.
يرجع مرجوعنا للأنباشي موسى، بعد الإحتلال، فقدناه ما لاقيناه، والاّ هو طِلِعْ كل الوقت جاسوس واحنا مش عارفين. كان جيش الإنقاذ عشان يتدّفا يلِّم حطب من اهل البلد، وراح في وقتها الأُنباشي موسى وطلب من عجوز في البلد تعطيه حطب، قالتلو: فش عنّا حطب هذول لََلولاد، وبعد ما سقطت لِبلاد رِجع هذا الأُنباشي مع اليهود وراح للختيارة وقلّها: ليش ما كنتِ تعطيني الحطب يا ختيارة؟ إطلّعت فيه تطليعة طويلة وما جاوَبَتو ع السؤال .
مرّه كنت بدوريِّة غربي البلد، مع حوالي 50 مسلّح، بدهن يروحوا يحتلوا الجليل من اليهود ... قلتلهن خليكوا هون بدّي أفقِدْ إذا في يهود ع المعاصِرْ، رُحت وضربت مُشط بارود علامة إنو الطريق أمان ... أخذنا مواقِعنا وكمّلنا الليلة هناك ... بعثولنا فريق ثاني غيّرنا ... وأنا سلّمت البارودة لإبن بلدنا عادل مطر (بعدو عايش لليوم)، وإحنا مروحين كانت الطيارة تقصف ترشيحا وسحماتا ودير القاسي.
من الجوع والخوف جنود جيش الانقاذ كانو يسلّموا البارودِه برغيف خبز.. وعشان هيك ما بحمي لِبلاد غير أهلها
وصارت فسوطه ممر للمهجّرين والنازحين، حتى جنود جيش الإنقاذ كانوا يسلّموا البارودِه برغيف خبز من الجوع والخوف.
أم مشيل كانت قاعدِة جنبنا وتساعد أبو مشيل بإستعادة ذكرياتو ... قلت لأم مشيل: إحكيلي ... كمّلي القصة، قالت: والناس تُركُض ومِنْهِزْمِه، أجا واحد من جيش الإنقاذ عَبَطْ أبوي وقلّلو: ليش قاعد يا بو شهاب بالبيت ياللا نِنهزِمْ ... مع فوتِتْ مبدّا دكور وسمِع الحكي وقال: شو هاذا الحكي .. إحنا مش راح نرحل، وأبوي أبو شهاب قال: إسمع تقولك هالمثل إن ما كان فدّانَكْ إبن بقرتَكْ وحرّاثك إبن مَرْتََكْ وِبْذاراتكْ عن سِدِّتَك ما بمشي الحال عشان هيك روح إنتي إنِهْزِمْ وما بحمي لِبلاد غير أهلها.
النازحين في الرميش كانوا دابكين على بِرَك الميّ زي المعزة
أبو مشيل كمّلْ وقال: كان عندي جَمَلْ، كنت أزُق عليه قمح وحبوب، أخذت الجمل وحمّلت عليه أواعي وغراض لعيلِه من النازحين، وِركِبت لِحمارة ومشينا في طريقنا للرميش، ولمّا وصلنا المنصورة حدّ الناطوعة، التقيت مع واحد من جيش الإنقاذ مِنِهزِمْ .... قللي خُذ البارودِة عنّي، قلتلو: شو بدّي فيها، زتّها ومشي... وصِلتْ الرميش، هناك في بِرِكتين مَيّ للطَرْش وَحَدِة من شَرقَة ووحدِة من غَربة، كانت البنآدمين دابكِة عالمَيّ زَيّ المِعزَة ... نَزّلتْ غْراضْ الزلمة واعطاني ليرة فلسطينية وارجِعتْ. الساعة ثنتين العصر وِصلو اليهود ع فسوطة واحتلوها، نْزِلتْ على وادي زَوادَة شماليّ فسوطة، كنا نعمل فيه مَشاحِرْ، وقعدت هناك ثلاث أيام.
وبنفس الليلة إحتل اليهود الشارع الشمالي كلّو وصّفينا إحنا بالنُصّ، وبعدين وِصِلْنا خبر إنّو البلد سلّمَت وما هدموها، ورجِعنا عَ بيوتنا.
مختار دير القاسي ترك كُلّ أملاكو وعاش بِلبنان بقلشين أبو إصبع
وأخذت أم مشيل الحكي وقالت: بعدين زتَتْ الطيارات وراق صغيرة، بتطلُب من الناس ترجع ع بلدها وتعمل هويّات زَرْقا. وهون قريب بجبل المجيد بدير القاسي، عِلقَتْ معركة بين اليهود وجيش الانقاذ، وطخّو كل عساكِر اليهود واستشهد حوالي سَبِعْ ثوار.
هذا جبل المجيد كان مُلكْ مُختار دير القاسي مجيد صادق ... كان ملاّك، ونُصّ المنطقة مُلْكو، تَرَك أملاكو وعاش ِبلبنان بقلشين أبو اصبع .. إبن المختار فايق أجا ع دير القاسي عَ بَلدو بعد أربعين سنة، وأخذ كيس تراب من بيت أبوه المختار (البيت بعدو موجود لليوم)، واجا ع فَسوطة والتقى مع أبوي أبو شهاب جريس سمعان، ولما عِرفو أبوي وقّف ع طولو وقلو: يا هلا بإبن المجيد.
سَرْحَت إم مشيل بأفكارها... وقلتلها وين صُرتي يا أُمّ مشيل؟ قالت: شو بَدي أقلك ... المنظر اللي شوفتو وقت الهجيج بحزِّن من دير القاسي للرميش طابور واحد ... كان الجمل ورا اخوه والرقبِه عالرقبِة. واحد من دير القاسي إسمو راشد الحسن طلب حدا يساعدو، قام ابو مشيل حمّلوا اواعيه عالجمل ومشي في الطابور، تشوف هذا بِبكي وهذا بصوِّت، وَحَدِه حِبلى وِصْلَت فسوطة وخلفّت في بيت زكي عزيز خوري، وحِمْلَت إبِنها وكمَّلت بِطريقها.
بقينا بفسوطة من الفقر ... خفنا نْهِّج ونموت من الجوع
تناول أبو مشيل الحكي وقال: تلاقي البنآدمين نايمه عالارض وعالتراب على جناب الطريق، إشي بِقَشْعِر الأَبدان. إحنا بفسوطة ليش فِكرَك ظلينا وبقينا هون ...بَسّْ بسبب الفقر، يعني الفقر هو اللي نجَانا من الرحيل، والفقير بِعرف إذا بِطْلعْ من البلد فِشّْ وين يروح، وبِموت من الجوع، واللي معو شوية مصاري أخذهِن ورَحَلْ.
ومرّه في سنة 1953 سِمِعْ أبوي حدا بدُقّ عالباب، قال أبوي لأمي تفتحيش يِمكِن هاذا البوليس، قُلت لأبوي: إفتح الباب هذا الصوت بعرفو، ولما فتحت نادى على أبوي وقلّلو: شو يا بو شهاب بدكاش تفتح لَمحمد الخضرة...هاذا محمد الخضرَة من صفد وكان مدير بنك بِعكا، وكان يلبِسْ حَطّه وِعقالْ ... قام أبوي حطِّلوا لِفراش عأربع بتّات حدّ كانون النار ... وبعد شويّ قال محمد الخضرة لأبوي: في غرَضْ بدّك تجِبْلي إيّاه من بيتي في صفد، وقلّلو وين موجود.. (يمكن ذهب) ... راح أبوي وبالطريق حدّ سعسع طخّوا عليه اليهود، ورِجِعْ ع البلد، وما غِدِر يجيب الغرض، ومحمد الخضرة رَحَلْ عَ لبنان وما رِجِعْ !!.
أبوي صار يُسرُط بريقو ويقول.. باطِلْ باطِلْ وينكو يا صحاب الأرض
قلت لأم مشيل شو أكثر قصة أحزنتكْ؟ قالت: الأرض اللي معمرّين فيها هي بِالأساس لدير القاسي، مُلْكْ لأرملة عجوز إسمها نِدا حْمود، وكانت هاي الأرض تستعمل مِحْفرة ... ترابها إبيض كُنّا نِجِبلو ونبني مِنّو فْرانِة من الطين ... وهاي الشغلِة كانت تخرِّب الأرض ... ويوم أجيت انا وإمي نوخذ تراب إبيض عشان نعمل فُرِنْ ... والاّ نِدا حمود العجوز جاي تَْطُل ع أرضها ... كان عمري 13 سنة.. وصرخت بصوت عالي: يا مصاوَبِة، يقصُفْ عُمرِك.. جاي توخذي تراب وتخرّبي الأرض؟ شو هي أرض أبوكي؟ ... قلتلها: هِيّاها اليهود وِصْلَت الأرض.. فِشّْ إشي إلِكْ هون وبدكو ترحلوا. أنا شو بعقِّلني كنت صغيره ... قالتلي: طيِّبْ ... بَدْنا نخلِّصْ السبت ونفوِّت هالحد ... المعنى.. بدنا نخلِّص ع اليهود وبعدين المسيحية.
رُحت قلت لأبوي ... قللي: ليش أزعلتي لِختيارة يابا هذا عيب ... ولمَّا رحلوا اهل دير القاسي من البلد ومعهُن لِختيارة ... وأجا وقت الحصيدة، صاروا أهل فسوطة يقسّمو قمح دير القاسي عبعضْهِنْ، ورُحت انا وأبوي وصُرنا نحصُدْ ... صار أبوي كل ما ضَرَبْ شْمالِةْ قمح يقول: باطِلْ باطِلْ.. وينكو يا صحاب الأرض!! ويسْرُط أبوي بريقُو ومِشْ عاجبو الوضع ... أجينا نربُط القمح بالحَبِلْ، أنا أشد بالحبل قبال أبوي، فِلِِتْ الحَبِلْ وِوْقِعتْ ... قال أبوي: خلّي القمح يابا بأَرضو .. هذا مِش إلنا .. تركنا القمح اللي ضبيناه، ومن الوَقعَة صار ظهري يوجعني كثير .. ومع الأيام بدّلنا أرضنا وكانت حُصِّتنا نفس أرض العجوز نِدا حمود.
قلت لأُم مشيل: إذا صارت حَلِّة لَلاّجئين يرجعوا عبيوتهِن وأراضيهِن شو بتعملي؟ قالت: كنت صغيرة وبعقِلش وبعدني ندمانِة كيف قلت للعجوز نِدا حْمود: بدكوا ترحلوا ... صدّقني بس يفكِّر الواحد لوَرا بْيِِنمْقِتْ، وكل ما بدور حوالي الدار بَتْذكَّر نِدا حمود، وبتذكر صحاب ابوي، وأهالي دير القاسي. لأنو كنا إحنا وِيّاهُم جيران وأهل، أبوي ما كان يسهر غير بالدير ... دير القاسي كانت غنية، وِصحابها ملاّكين، واهالي فسوطة كانو فُقرا ويشتغلوا عندهُم بأراضيهِن.
هاي الحارة اللي إحنا فيها اليوم كلها للدير. يعني يا حبيبي إشي بِمقِتْ ... واليوم إذا صارت حَلّة لرجوع اللاجئين إحنا مستعدين نعطيهن أرضهِن ونرجع ع أرضنا ... إنشا الله هذا الحلم بْيتحَقَّق.